في رمضان تسمو روح المسلم وترتقي إلى درجات من العلو والجلال لم يكن يعرفها من نفسه، ولم يكن يعهدها من قلبه.
فالحياة المادية التي نعيشها أتت للمرء بقسوة في قلبه وجفاف في عينه، فإذا جاء رمضان تغير ذلك كله، وأرسلت الدموع في خشوع وخضوع، وحصلت التوبة وراجع الناس أعمالهم، وهكذا هو رمضان.
ألا وإن أعظم ما يؤثر في المرء في رمضان قراءة القرآن وصلاة التراويح، فلهما أثر لا ينكر، وفعل لا تخطئه العين.
وفي هذا المعنى قال الأستاذ سعيد رمضان أحد كبار الخطباء الذي أقام في سويسرا هرباً من طغاة مصر وتوفي بجنيف 1416/ 1996:
"هذا أنت أيها الإنسان: في حقيقتك الروحية سر وجودك، وفي حفاظك عليها نور طريقك، وفي سلطانهما على حياتك شهادة الصدق أنك أهل لقول الله ولقد كرمنا بنى ءادم
لهذا تصوم وليس لله حاجة إلى طعامك وشرابك، كي يشهد حالك أن نداء السماء أعز عليك من شهوة جسدك، فتنقدح بذلك شرارات تذكي روحك وتبدد ظلمة نفسك، وكي يروضك الصيام أياماً كل عام على ضبط إرادتك وتوثيق عزمك، فتستقيم حياتك على العبرة المماثلة في قصة جدك: (ولقد عهدنا إلى ءدام من قبل فنسى ولم نجد له عزماً) 115
وقد تستبين من كل ذلك المناسبة بين رمضان ونزول القرآن، وتمثل الحكمة التي من أجلها امتاز الصيام من بين فرائض الإسلام بصحبة التنزيل، وذلك أن الوحي إنما يحمل حقائق من رحاب القدس تتحدى زخرف المظهر: (وبالحق أنزلته وبالحق) ، ورحيقاً من الصدق يسكبه في الحقيقة الروحية للإنسان: (نزل به الروح الامين) 193.
وأن سلطان هذا الوحي في حياة الناس هو دائماً على قدر صلته بحبات قلوبهم، وبالحقيقة الروحية في أعماقهم، فوق اختلاف الرأي وتعدد المصالح، وفوق الهوى والشهوة، وصدق الله العظيم: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) 37، (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن)
رسالة الصيام هي رسالة القرآن:
1- تذكير المؤمن بحقيقته الروحية وراء عوارض الشبع والجوع والري والظمأ.
2- ترويض إرادته في ظل سلطان الروح على إيثار داعي الله على كل هوى وشهوة.
3- تزكية روحه وتحريرها من الغفلة، كي تظل الرائد المشرق لنشاط الحياة.
ولئن كان إهلال رمضان في كل عام تذكيراً بهذه الرسالة وتجديداً لمعانيها الثلاثة، إنه في هذا العصر يهل على عالم يحتاج إلى دروسه أشد من حاجاته إلى الغذاء والكساء والبترول وقوى الذرة وشتى وسائل المدنية والعمران.
لقد انقطع ركب البشرية عن رسالة الإنسان، وأصبح يتهدد أمنه معسكران كبيران، أحدهما كافر صريح الكفر بالله وبالروح وبالمثل العليا التي يقدسها الإنسان، والآخر يحمل في ظاهره دعوى الإيمان في حين تتسم حياته بالميوعة والتحلل والتمرد على أعز القيم والأخلاق.
وبين المعسكرين المتناحرين ملايين من البشر هي مرابع الهوى والطمع والعبث لهذا المعسكر أو ذاك، وهي الفرائس لسعره الخادع منهما أو الغالب! ونشاط هذه الملايين بين المعسكرين لا يزال في جملته نشاطاً يتتلمذ على فنونهما في الحيلة والمداورة، ويحمل ذات طبيعتهما في مادية الاتجاه وإقليمية المصالح وكبرياء الفخر بالقوة والجاه.
إن العالم يعيش في مادية طاغية موغلة حرمت الإنسان نعمة الأمن والسلام حتى في خاصة نفسه وأهله، ولقد بلغ من إيغال هذه المادية وطغيانها أنها مسخت مشاعر الإنسان التي تعود التاريخ أن يجد من عندها منطلق حركات التبديل والإنقاذ، فغدت كلمات الحب والعطف والرحمة والعدل والمروءة والوفاء عناوين على ضعف الذين لا يزالون يعيشون في أحلامها البريئة الساذجة.
وعلى تخلفهم عن ركب حياة عارمة لا يرحم المتخلفين، بل لقد انتكست هذه الكلمات العظيمة ذاتها حتى غدت مفاهيمها حكراً على دنيا الصلات الجنسية تستمد منها فتنتها وتؤول إليها حصيلتها: تحللاً في الفرد والأسرة والجماعة!
والمسلمون في هذه الغابة الموحشة لم يعد يميز أكثرهم عن غيرهم روح ولا خلق، بل إن كثرة ولاة أمورهم لم تعد ترى من عقبة في طريق ما تزعمه من آمال النهوض إلا البقية المبعثرة من روحانية الإسلام وأخلاقه وتطاردها، وتتفنن في مطاردتها!
ودعاة الإسلام – على اختلاف أسمائهم وأوطانهم – يتلمسون طريقهم في ظلمات بعضها فوق بعض، ويغالبون تضاريسها بوسائل شتى لدعم حقهم ودحض الشبهات عن دينهم، ولا يألوا كثير منهم جهداً في تفهم واقع العصر وفي استعمال لغته وأساليبه كي يبلغوا الآذان ويعالجوا مركبات الجهل والنقص والغفلة في المسلمين.
وأحر بهؤلاء الدعاة – مهما اختلفت أسماؤهم وأوطانهم ووسائلهم – أن تلفتهم عبرة الصيام إلى الأساس الذي يلتقون عنده جميعاً، وهو أن دعوتهم دعوة إلى الله (قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعنى).
وأنها تستهدف في الإنسان سره العميق الذي يصله بالله: (ونفحت فيه من روحى) وأن نجاح الدعوة لذلك إنما يأتي على قدر الطاقة الروحية في الدعاة من وراء أساليب الكتابة والخطاب، ولغة الروح رائشة السهم نافذة الأثر لأنها من أمر الله: (ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً 85(
جميل أن نستشعر حاجة المسلمين إلى العلم والنظام ومختلف وسائل المدنية والعمران، بل أن القيام على ذلك واجبات تفرضها شريعة الإسلام، بيد أن العلم والنظام ووسائل العمران كلها ليست إلا بعض أسباب المادة لتسخير قواها ومعالجة مشكلاتها.
فدورها لا يكاد يعدو دور العصا للسائر في الظلام أما العدة الأصلية على طغيان المادة وظلامها وخاصة في عصرنا المادي الرهيب الذي نعيش فيه. وهي قوة الروح وانطلاق طاقاتها واستعلان لغتها: (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور 40)
ويقول الدكتور عبدالوهاب عزام، الأديب الشاعر، وسفير مصر في السعودية المتوفى سنة 1378/ 1958 مبيناً أثر التراويح في الأرواح والقلوب:
"صليت التراويح في المسجد الحرام، والإمام يقرأ فيها جزءاً من القرآن ليختم القرآن في الشهر.
قام الإمام في جانب المطاف متوجهاً إلى الكعبة بين الركن اليماني والحطيم، ويقوم الأئمة في غير التراويح بين مقام إبراهيم والكعبة متوجهين إلى الجدار الذي فيه الباب، ولكن في التراويح يفسحون المطاف للطائفين فيصلون حيث ذكرت.
لا أنسى الصفوف محيطة بالكعبة على نظام محكم، والمصابيح ترسل على الوجوه نورها، والقمر فوقنا ينافسها إنارة للمصلين، والنسيم يسري فيمحو عن المسجد حر النهار، ويمسح وجوه المصلين ويمس ثيابهم رفيقاً رقيقاً.
والقرآن تنبعث نغماته فتخالط النور والهواء، ولم تزل نغماته متصلة منذ قراه الرسول الكريم حول الكعبة أول مرة.
والتكبير يدوي في الأرجاء كأنه في هذه الموسيقى الروحية التي يؤلفها نور المصابيح وأشعة القمر وخفقات النسيم وتلاوة القرآن.
كنت أشغل عن الصلاة حيناً بالتأمل في هذا المشهد العظيم، أقول:
وما عليك إن شغلت عن صلاتك لترى صلاة السماء والأرض في هذا المرأى الرائع، وتبصر قيام العالم كله حول الكعبة، أليست هذه الصفوف مقدمة صفوف متلاحقة متواصلة من الكعبة إلى أقصى الجهات؟
هل يخلو ميل من الأرض في بلاد المسلمين من مصل منفرد أو جماعة وجهتها الكعبة ولسانها القرآن ونداؤها التكبير؟ فانظر إلى هذه الجماعة الكبرى تتلاحق صفوفها، واستمع إلى هذه الموسيقى تتوالى نغماتها، وتمتد موجاتها من هذه الكعبة إلى بلاد نائية في أقطار الأرض.
هنا مركز الدائرة، وهنا قطب المغناطيس تتوجه إليه القلوب والوجوه، هنا أخوة المسلمين، هنا توحيد الله: الله أكبر".
وقال الوزير العراقي المفوض في لندن وواشنطن وجدة عندما وفد إلى مكة سنة 1373/ 1953:
"إنها ليلة من ليالي رمضان، وأهل مكة والعمار والطائفون يقصدون المسجد الحرام للإفطار بجوار الكعبة، ولصلاة العشاء ومن بعدها صلاة التراويح والوتر ومنهم من يقوم لصلاة القيام إلى مطلع الفجر.
لقد شهدت في حياتي مشاهد أخاذة لا تعد ولا تحصى في كثير من بلاد الله، ولكني أقر بأن المشهد الذي شهدته هذا المساء ليس له مثيل بين مشاهد العالم، إنه أروع مشهد يبهر العين، ويأخذ بالقلب والوجدان.
المسجد الحرام تتلألأ جنباته بالأنوار الكهربائية الساطعة، ألوف وألوف من المحرمين، ومن غير المحرمين اصطفوا حول الكعبة من كافة جهاتها، مولين وجوههم شطرها، منهم من يصلى، ومنهم من يتلو آي الذكر الحكيم، ومنهم من يردد التسبيح والابتهال والدعاء والتكبير".
هذه بعض آثار القرآن والتراويح في النفوس والأرواح والقلوب.
أما كيف ينبغي أن نقرأ القرآن في رمضان فهذا سؤال كبير أجيب عليه إن شاء الله في الحلقة القادمة.
الكاتب: الدكتور محمد بن موسى الشريف
المصدر: موقع التاريخ